الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وللزمخشري طريقة أخرى فقال يعني: واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة.وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبَر به كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك» ولم أرَ من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق.واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون {يوم يناد المنادي} مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناءُ على الفتح، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابننِ مالك ولا ريبة في أنه الأصوب.ومنه قوله تعالى: {قال الله هذَا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة: 119] في قراءة نافع بفتح {يومَ}.وقوله: {يوم يسمعون الصيحة} بدل مطابق من {يوم يناد المنادي} وقوله: {ذلك يوم الخروج} خبر المبتدأ.ولك أن تجعل {يوم يناد المنادي} مفعولًا فيه ل {استمع} وإعراب ما بعده ظاهر.ولك أن تجعل {يوم يناد المنادي} ظرفًا في موقع الخبر المقدم وتجعل المبتدأ قوله: {ذلك يوم الخروج} ويكون تقدير النظم: واستمعْ ذلكَ يومُ الخروج يوم ينادي المنادي الخ، ويكون اسمُ الإشارة لمجرد التنبيه، أو راجعًا إلى يوم ينادي المنادي، فإنه متقدم عليه في اللفظ وإن كان خبرًا عنه في المعنى واسم الإشارة يكتفي بالتقدم اللفظي بل يكتفي بمجرد الخطور في الذهن.وفي (تفسير النسَفِي) أن يعقوب أي الحضرمي أحد أصحاب القراءات العشر المتواترة وقف على قوله: {واستمع}.وتعريف {المنادي} تعريف الجنس، أي يوم ينادي منادٍ، أي من الملائكة وهو الملك الذي ينفخ النفخة الثانية فتتكوَّن الأجساد وتحل فيها أرواح الناس للحشر قال تعالى: {ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68].وتنوين {مكان قريب} للنوعية إذ لا يتعلق الغرض بتعيينه، ووصفه بـ {قريب} للإشارة إلى سرعة حضور المنادين، وهو الذي فسرته جملة {يوم يسمعون الصيحة بالحق} لأن المعروف أن النداء من مكان قريب لا يخفى على السامعين بخلاف النداء من كان بعيد.و{بالحق} بمعنى: بالصدق وهو هنا الحشر، وصف {بالحق} إبطالًا لزعم المشركين أنه اختلاق.والخروج: مغادرة الدار أو البلدِ، وأطلق الخروج على التجمع في المحشر لأن الحَيَّ إذا نَزَحُوا عن أرضهم قيل: خرجوا، يقال: خرجوا بقَضِّهم وقضيضهم.واسم الإشارة جيء به لتهويل المشار إليه وهو {يوم يسمعون الصيحة بالحق} فأريد كمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الخبر العظيم.ومقتضى الظاهر أن يقال: هو يوم الخروج.و{يوم الخروج} علم بالغلبة على يوم البعث، أي الخروج من الأرض.وجملة {إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير} تذييل، أي هذا الإحياء بعد أن أمَتْنَاهُم هو من شؤوننا بأنا نحييهم ونحيي غيرهم ونميتهم ونميت غيرهم.والمقصود هو قوله: {ونميت}، وأما قوله: {نحيي} فإنه لاستيفاء معنى تصرف الله في الخلق.وتقديم {إلينا} في {إلينا المصير} للاهتمام.والتعريف في {المصير} إما تعريف الجنس، أي كل شيء صائر إلى ما قدرناه له وأكبر ذلك هو ناموس الفناء المكتوب على جميع الأحياء وإما تعريف العهد، أي المصير المتحدث عنه، وهو الموت لأن المصير بعد الموت إلى حكم الله.وعندي أن هذه الآيات من قوله: {واستمع يوم يناد المنادي} إلى قوله: {المصير} مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقَون إثره حتفهم، وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بترقب يوممٍ يناديهم فيه منادٍ إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صَرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأنّ عِير قريش وفيها أبو سفيان قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالُكم مع أبي سفيان قد عَرض لها محمد وأصحابه.فتجهز الناس سراعًا وخرجوا إلى بدر.فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة.والخروج: خروجهم لبدر، وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصالُ سادتهم عقبه.وتكون جملة {إنا نحن نحيي ونميت} وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قَدّر إسلامه فيما بعدُ فهو يحييه إلى يوم أجله.وكتب في المصحف {المناد} بدون ياء.وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بدون ياء في الوصل وبالياء في الوقف، وذلك جارٍ على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرّف باللام معاملة المنكّر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز.وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرّف معاملة المنكر.وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتبارًا بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالَف قياسُ اللفظ لأجله.{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)}.إنّ جريتَ على أقوال المفسرين في تفسير الآية السابقة أفادت هذه الآية بيانًا لجملة {ذلك يوم الخروج} [ق: 42] أو بدل اشتمال منها مع ما في المعاد منها من تأكيد لمرادفه.وإن جَرَيْتَ على ما ارتيأتُه في محمل الآية السابقة أفادت هذه الجملة استئنافًا استدلالا على إمكان الحشر ووصف حال من أحواله وهو تشقُّق الأرض عنهم، أي عن أجساد مثيلة لأجسادهم وعن الأجساد التي لم يلحقها الفناء.وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {تشقق} بفتح التاء وتشديد الشين.وأصله تتشقق بتاءين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينًا لتقارب مخرجيها.وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {تشقق} بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل لاستثقال الجمع بين تاءين.و{سراعًا} حال من ضمير {عنهم} وهو جمع سريع، أي سراعًا في الخروج أو في المشي الذي يعقبه إلى محل الحساب.والقول في إعراب {تشقق الأرض عنهم سراعًا ذلك حشر} كالقول في إعراب قوله: {يوم يناد المناد من مكان قريب} [ق: 41] إلى {ذلك يوم الخروج} وكذلك القول في اختلاف اسم الإشارة مثله.وتقدم المجرور في {علينا} للاختصاص، أي هو يسير في جانب قدرتنا لا كما زعمه نفاة الحشر.{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقولونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}.استئناف بياني ناشىء عن قوله: {فاصبر على ما يقولون} [ق: 39] فهو إيغال في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بوعيدهم، فالخبر مستعمل مجازًا في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه.وقوله: {وما أنت عليهم بجبار} تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير مسؤول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بُعث داعيًا وهاديًا، وليس مبعوثًا لإرغامهم على الإيمان، والجبّار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه.وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشىء عن نفي كونه جبّارًا عليهم وهذا كقوله تعالى: {فذكّر إنما أنت مذكّر لستَ عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22]، ولكن خصّ التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكَّر.فالمعنى: فذكر بالقرآن فيتذكّر مَن يخاف وعيد.وهذا كقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45].وكتب في المصحف {وعيد} بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف.وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل.وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. اهـ.
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: وقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض} الآية خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فنزلت: {وما مسنا من لغوب} واللغوب: الإعياء والنصب والسأم، يقال لغب الرجل يلغب إذا أعيى.وقرأ السلمي وطلحة: {لَغوب} بفتح اللام. وتظاهرت الأحاديث بأن خلق الأشياء كان يوم الأحد وفي كتاب مسلم وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه: أن ذلك كان يوم السبت وعلى كل قول فأجمعوا على أن آدم خلق يوم الجمعة. فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة.وقوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون} قال بعض المفسرين: أراد أهل الكتاب لقولهم، ثم استراح يوم السبت.قال القاضي أبو محمد: وهذه المقالات من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة.وقال النظار من المفسرين قوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون} يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة، وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم، وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال: الآية منسوخة بآية السيف.{وسبح} معناه: صل بإجماع من المتأولين وقوله: {بحمد ربك} الباء للاقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد ومثله {تنبت بالدهن} على بعض الأقوال فيها و: {قبل طلوع الشمس} هي الصبح {وقبل الغروب} هي العصر قاله قتادة وابن زيد والناس، وقال ابن عباس: {قبل الغروب} هي العصر والظهر {ومن الليل} هي صلاة العشاءين وقال ابن زيد هي العشاء فقط.وقال مجاهد: هي صلاة الليل وقوله: {وإدبار السجود} قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبو هريرة والحسن والشعبي وإبراهيم، ومجاهد والأوزاعي: هي الركعتان بعد المغرب وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل، فقيل هي الركعتان مع الفجر. وروي عن ابن عباس أن {إدبار السجود}: الوتر، حكاه الثعلبي وقال ابن زيد وابن عباس ايضًا ومجاهد: هي النوافل إثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية، وقال بعض العلماء العارفين: هي صلاة الليل، قال الثعلب: وقال بعض العلماء في قوله: {قبل طلوع الشمس} هي ركعتا الفجر {وقبل الغروب} الركعتان قبل المغرب وقال بعض التابعين: رأيت أصحاب محمد يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة، وقال قتادة: ما أدركت أحدًا يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنسًا وأبا برزة.وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى وشبل وطلحة والأعمش {وإدبار} بكسر الألف وهي مصدر أضيف إليه وقت، ثم حذف الوقت، كما قالوا: جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم ونحوه، وقرأ الباقون والحسن والأعرج، {وأدبار} بفتح الهمزة وهو جمع دبر كطنب وأطناب، أي وفي {أدبار السجود} أي في أعقابه وقال أوس بن حجر: الطويل:قوله تعالى: {واستمع} بمنزلة، وانتظر، وذلك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء، لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار، وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه، وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا، أي كن منتظرًا له مستمعًا، وعلى هذا فنصب {يوم} إنما هو على المفعول الصريح.وقرأ ابن كثير: {المنادي} بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها، إذ الكلام غير تام وإنما الحذف ابدًا في الفواصل، والكلام التام تشبيهًا بالفواصل. وقرأ أبو عمرو ونافع، بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير، ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة، ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج، ويحذف فيه الحرف في القوافي، وقرأ الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعًا وذلك اتباع لخط المصحف، وأيضًا فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب أن تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام.وقوله تعالى: {من مكان قريب} قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن ملكًا ينادي من السماء: أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة، هلم إلى الحساب الوقوف بين يدي الله». وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما: المكان صخرة بيت المقدس واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم: وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة. وقال كعب الأحبار: وصفه بالقرب من السماء، وروي أنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا، وهذا الخبر إن كان بوحي، وألا سبيل للوقوف على صحته. و: {الصيحة} هي صيحة المنادي و: {الخروج} هو من القبور، و: {يوم} هو يوم القيامة، و{يوم الخروج} في الدنيا هو يوم العيد قال حسان بن ثابت: الكامل: وقوله تعالى: {يوم تشقق} العامل في {يوم}، {المصير}. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: {تشّقق} بتشديد الشين. وقرأ الباقون: {تشقق} بتخفيف الشين و: {سراعًا} حال قال بعض النحويين وهي من الضمير في قوله: {عنهم} والعامل في الحال {تشقق} وقال بعضهم التقدير: {يوم تشقق الأرض عنهم} يخرجون {سراعًا} فالحال من الضمير في: {يخرجون}، والعامل {يخرجون}.وقوله تعالى: {ذلك حشر علينا يسير} كلام معادل لقول الكفرة: {ذلك رجع بعيد} [ق: 3]. وقوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون} وعيد محض للكفرة.واختلف الناس في معنى قوله: {وما أنت عليهم بجبار}. فقال قتادة: نهى الله عن التجبر وتقدم فيه، فمعناه: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت. وقال الطبري وغيره معناه: وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان، ويقال جبرته على كذا، أي قسرته ف {جبار} بناء مبالغة من جبر وأنشد المفضل: الوافر:
|